خضر خضور باحثٌ في مركز كارنيغي للشرق الأوسط في بيروت. يناقش في هذه المقابلة استراتيجية النظام السوري أثناء الانتفاضة مستقصياً الفرق بين النظام والدولة، والجدل المؤيد للمعارضة والمضاد لها، وديناميات قواعد اجتماعية مختلفة للنظام، وأكثر من ذلك.
يركز بحث خضور على مسائل الهوية والمجتمع في سوريا.
انظر من فضلك النص المدون للمقابلة تحت زر التشغيل
مقابلة إذاعية مع خضر خضور
حاوره: بسام حداد
صاغها باللغة العربية الفصحى أسامة إسبر
بسام: هل يمكن أن تعرّف المستمعين عن نفسك وخلفيتك وطبيعة البحث الذي تقوم به؟
خضر: بكل تأكيد. أنا اسمي خضر خضور، باحث في معهد كارنيغي في بيروت، أقوم بأبحاث حول الهوية السورية.
بسام: أريد أن أعرف وجهة نظرك الآن عن مسألة صارت أكثر أهمية مما كانت عليه سابقاً. وكانت دائماً مهمة حتى قبل الانتفاضة. وهي مسألة الفرق في سوريا بين النظام والدولة في الوقت الحالي، إذا كان هذا ينعكس على الحديث الذي نجريه.
خضر: بكل تأكيد. أعتقد حتى منتصف ٢٠١٢ كان بوسعنا أن نقول هناك نظام وأن نقول هناك دولة. حين صار الصراع مسلحاً بين كافة الأطراف لم يعد هناك فاصل، أي لم يعد بوسعنا أن نطلق صفات، أو نسمي الدولة دون فصل عن النظام. حتى في المقابلات التي أُجريت مع الرئيس السوري بشار الأسد قال: ليس هناك شيء يُسمى نظاماً، نحن دولة سورية. أعتقد أن كلامه دقيق، ليس هناك شيء يدعى نظاماً، نحن نتحدث عن الدولة. الدولة والنظام هما في مكان واحد، يأخذان منحى واحداً. نلاحظ هذا في مناطق المعارضة أيضاً. قد ترى موظفاً في وزارة الكهرباء يعتدي عليه رجال المعارضة. إنه بالنسبة إليهم هو نظام بينما في الأدبيات السائدة نفهم نحن أنه موظف لدى الدولة. إن العلاقة بين النظام والدولة هي أعمق مما كنا نتصور بكثير. فقد وصلا إلى مرحلة الالتقاء في مكان واحد، لذلك أعتقد أننا لا نستطيع التفريق بين النظام والدولة في هذا السياق أبداً.
بسام: بالنسبة للخدمات التي تقدمها الدولة، واستمرت في تقديمها حتى ضمن الصراع الحالي في مختلف المناطق حتى لو لم تكن تحت سيطرة النظام، ما هي استراتجية النظام بالنسبة لهذه الخدمات التي يوفرها والرواتب التي ما يزال يدفعها؟ ما أسباب استمرار توفير الخدمات ودفع الرواتب حتى الآن؟ ما هي الفكرة الكامنة وراء ذلك؟
خضر: أعتقد أن موضوع الخدمات منحصر في مراكز المدن. إذا كنتَ تريد خدمة حكومية في سوريا يجب أن تأتي إلى الأماكن التي تتواجد فيها الدولة السورية. سابقاً كان من الممكن أن تصل الخدمات حتى لو كانت المنطقة خارج سيطرة الدولة. حالياً اقتصر الموضوع فقط على مراكز المدن فحين يقبض الموظفون رواتبهم فإنهم يقبضونها من مراكز المدن، كمركز مدينة إدلب أو مركز مدينة دير الزور أو درعا وهلمّجرا، هذا من ناحية، من ناحية أخرى، إن آلية تقديم الخدمات مرتبطة بأماكن تواجد الدولة السورية. أعتقد أن الخدمات كشفت عن وجود عقد اجتماعي جديد نلمسه بين الدولة السورية والمواطن. باختصار، إن فحواه يتعلق بالصمت مقابل الخدمة الحكومية: أنت تقدم صمتاً فتحصل على خدمة. إن الصمت هنا يعني أنه لا يمكن أن تكون معارضاً أو ناشطاً سياسياً وفي الوقت نفسه تعمل كموظف لدى الدولة، أو غير موظف، فقد تحتاج إلى جواز سفر أو وثيقة سفر، شهادة ميلاد مثلاً، فمن شروط الحصول على هذه الوثائق ليس مهماً أن تكون موالياً بل صامتاً. هذا عقد اجتماعي جديد بين الدولة والمواطن في سوريا من خلال الخدمات الحكومية التي جعلتْنا نلمس هذه المسألة بوضوح. من ناحية أخرى إن موضوع تقديم الخدمات مرتبط ببنية جهاز الدولة، فهذا الجهاز هو مؤسساتي في الدرجة الأولى وشخصاني في الدرجة الثانية، لم نر ظواهر مثل أن الدولة عاقبت مناطق معينة بكاملها عبر استخدام خدمات الدولة كسلاح. إن الخدمات الحكومية تُستخدم كسلاح ضد الأفراد وليس ضد المناطق، وهذا العمل مرتبط بطبيعة عملهم وهي مؤسساتية بالدرجة الأولى.
بسام: هل يمكن أن تقدم لنا أمثلة عن الأماكن التي ما تزال تحت سيطرة النظام، طبعاً بالمقارنة مع المناطق التي خرجت عن سيطرته في الوقت الحالي رغم أن هذا الواقع يمكن أن يتغير
خضر: صار هناك ثوابت حالياً. إن النظام موجود في كل مكان في سوريا، في كل منطقة جغرافية في سوريا. فإذا ما دققنا بالخريطة بشكل عام نجد أن لدينا كتلة الساحل، كتلة الوسط، الجنوب الشمال\\الشرق، الشمال\\ الغرب والجزيرة السورية. إن النظام موجود في جميع هذه المناطق ولكن بنسب متفاوته. هناك أماكن في الشمال عموماً وجود النظام فيها أقل بكثير من الوسط أو من الساحل. إن النقطة المشتركة لتواجد النظام في كامل سوريا هي مراكز المدن الأساسية ما عدا محافظة الرقة بالكامل النظام غير موجود فيها. إن مراكز المدن هي المفتاح الذي يمكننا من فهم كيف تشتغل الدولة السورية وكيف يشتغل الصراع وتأثيره في المجتمع بشكل عام. لا نمتلك صورة واحدة كي نتحدث عنها والنسب غير مهمة، غير أنني أود أن أتحدث عن نقطة رأيت أنها مهمة في الفترة الماضية وهي مفهوم النوع والكم، إذ ليس مهماً إذا خسر النظام ٧٠٪ من الأراضي السورية. أنا أعتقد أن ما هو مهم هو ماذا يوجد في الـ ٣٠٪ المتبقية، ما هو موجود هو مراكز المدن التي نتحدث عنها. بالنسبة لي النوع أهم من الكم وفي داخل هذه النوع، أي في الـ ٣٠٪ المتبقية نحن نرى كل شيء، نرى جهاز الدولة بالكامل، الجهاز الأمني بالكامل، قطعاً عسكرية كبيرة، كثافة سكانية عالية، نرى نازحين، وإغاثة، وليس بقايا دولة بل دولة، فالنظام متموضع بشكل شبكي ولكن في نقاط حساسة كثيراً واستراتيجية بالنسبة له
بسام: لنخرج من الصورة الضيقة، وقبل أن نعود إلى مراكز المدن. هل يمكن أن تحدثنا عن استراتيجية النظام السوري في السنوات الثلاث الماضية والنصف وخاصة بعد أن تحولت الانتفاضة لصراع عسكري وما هي المراحل التي تطورت فيها استراتيجية النظام؟
خضر: أعتقد أن الحالة السورية بالكامل بما فيه الانتفاضة مرت في مرحلتين، الأولى: من بدايات منتصف آذار ٢٠١١ حتى منتصف ٢٠١٢. هذه المرحلة اتسمت بسلمية الانتفاضة إلى حد كبير، فيما بعد حدثت نقطة تحول رئيسية اتسمت مع ما سمته المعارضة بركان حلب، أي استهداف خلية الأزمة، أركان النظام الأساسيين في ذلك الوقت، وتوقف مسلسل الانشقاقات، بعد أن حدثت انشقاقات كبيرة. في ذلك الوقت، منتصف ٢٠١٢ تقريباً، دخلنا مرحلة ثانية تماماً، في هذه المرحلة التي تلت صار لدى النظام أولويات، من نوع المباني الحكومية، فهم لا يستطيعون أن يخسروا مراكز المدن، فتم نقل المباني الحكومية من أماكن التوتر داخل المدن إلى أماكن أكثر أماناً كما رأينا في حمص ودير الزور مثلاً. اتبعت استراتيجيات جديدة مثل إدخال عناصر من حزب الله إلى الأرض السورية والقتال إلى جانب النظام، وصار هناك مأسسة للعنف في سوريا، قبل ذلك كان هناك مجموعات سُميت الشبيحة إعلامياً، ولكن بعد منتصف ٢٠١٢ تمت مأسستها بشكل كامل، وشكلوا ما يُسمى بقوات الدفاع الوطني وجمعوا كل المجموعات المقاتلة خارج المؤسسة العسكرية وسموها قوات الدفاع الوطني. هذا تم في نهاية ٢٠١٢. تمت عملية مأسسة. إن مأسسة هذه المجموعات كانت من أولويات واستراتيجيات النظام في ذلك الوقت. كان السبب الأساسي إمكانية قطع طريق أمام ظهور أمراء حرب من طرف الدولة السورية. لم يكونوا يريدون أن يتمرد عليهم أحد من الداخل، وضعوهم في إطار مؤسساتي صار فيه بيروقراطية وروتين حدا من نفوذ هؤلاء إلى حد ما. أعتقد أن هذه كانت من الأولويات والاستراتيجيات المهمة في تلك المرحلة. نحن نرى توابع ذلك حتى الآن، لماذا لا يوجد أمراء حرب مع الدولة السورية حتى الآن، منذ ثلاث سنوات أو أكثر؟
هناك نقطتان أخريان أود الحديث عنهما هما عملية تحييد الجيش، منذ تلك المرحلة حتى اللحظة أرادوا تحييد المؤسسة العسكرية عن الانخراط الكامل في الصراع. كانوا يريدون أن يكون هناك قرار من الداخل حصراً. أنا أختلف مع كثير من الباحثين والمعارضين الذين يقولون إن إيران هي المسؤولة عن المؤسسة العسكرية، إنه لم يعد هناك جيش سوري. أنا أخالف هذا الرأي. إن الجيش السوري ما يزال موجوداً وما يزال قراره من الداخل على عكس قوات الدفاع الوطني التي قامت بدورات تدريبية في إيران أو في روسيا. لقد تم تحييد المؤسسة العسكرية عن أي تدخل خارجي لحلفاء الدولة السورية في ذلك الوقت وحتى اللحظة. أعتقد أن تحييد المؤسسة العسكرية كان مهماً بالنسبة لهم
كان هناك ظاهرة أخرى في ذلك الوقت حتى منتصف ٢٠١٣ هي غض الطرف عن الناشطين السوريين إذا كانوا يريدون الخروج من سوريا. نشأ خوف أكبر عند الناشطين المدنيين في ذلك الوقت وفي الوقت نفسه صار هناك قبول لدى النظام بأن يخرج هؤلاء من البلد ويعارضوا من الخارج. لا نريدهم داخل البلد. أعتقد أن هذه كانت أحد الاستراتيجات والتكتيكات التي اعتمدها النظام في ذلك الوقت. في النهاية تم إغلاق البلد، وصلنا إلى مرحلة تشعر فيها حين تدخل سوريا كأنك داخل إلى معسكر عسكري أو قلعة، كأنك لست داخلاً إلى بلد. إن سوريا قبل مند منتصف ٢٠١٢ غير سوريا بعدها. نحن نتحدث عن شيء آخر تماماً. أعتقد أن هذه أهم الاستراتيجيات والتكتيكات التي اعتمدها في ذلك الوقت
بسام: أين ترى أن هذه الاستراتيجة أخذت مداها مؤخراً وكيف تغيرت مع صعود بعض الفئات مثل داعش التي هي طبعاً أدت إلى عملية ثانية مختلفة بالنسبة للصراع الموجود، وأدت إلى تدخل خارجي مباشر كان مرفوضاً من قبل ، فكيف تستوعب هذه الاستراتيجية الأحداث الحالية الآن؟
خضر: أعتقد أن هذا كله تكملة، فما تحدثت عنه، والذي هو مراكز المدن، المباني الحكومية، عناصر حزب الله، مأسسة العنف من قبل الدولة السورية وتحييد الجيش، أعتقد أن هذه الأمور ما تزال قائمة حتى الآن. هذا الشكل الجديد، أو التوازن الجديد اعتمدته الدولة. أما بالنسبة لداعش، فموضوعها إشكالي، ولا نملك حتى الآن تفسيراً منطقياً دقيقاً حول ولادة هذه الظاهرة. أميل، إلى حد ما، إلى القول بأنهم قوة جذب ما، النظام يستفيد من هذا التنظيم وكذلك القوى الخارجية أيضاً. كما أن وجود داعش يشكل توازناً من نوع ما. صحيح أن هناك تدخلاً، لكنه غير مفهوم، هل هو للقضاء على داعش؟ أم تدخل من أجل التدخل فحسب؟ لا أملك جواباً حول هذا الموضوع لأن الصورة غير واضحة بعد. لا أرى أي تغيير في الاستراتيجيات والتكتيكات التي ابتعتها الدولة السورية منذ البداية، فمنذ منتصف 2012 أرى الصورة نفسها، أننا ما نزال في المرحلة نفسها
بسام: هل يمكن أن نتحدث قليلاً عن مسألة أوساط المدن، بعض الكتابات أو الأحاديث شددت على أوساط المدن بما فيه أنت، لنوسّع، لماذا أوساط المدن تمتلك هذه الأهمية؟ وهل أثر هذا في قدرة النظام على استيعاب القوى الموجودة ضده في الداخل والخارج. هل يمكن التوسع في هذه المسألة؟
خضر: بالتأكيد. لموضوع مراكز المدن شقان، الشق الأساسي: لماذا النظام، أو الدولة السورية موجودة في مراكز المدن؟ أعتقد أن هذا مرتبط بالفضاء العام في سوريا. لم نشهد حتى الآن أية دراسات تناولت هذا الموضوع بعمق. لمن الأماكن العامة في سوريا؟ من يملك الفضاء العام؟ أعتقد أن النظام يستطيع أن يوجد في مراكز المدن لأنه لا مالك لها، على عكس الأرياف والأحياء المحيطة بمراكز المدن فهي لها ملاك، فمن يسكنها يملكها. وأنا هنا أتحدث عن الفضاء العام. بالنسبة للمركز، الدولة السورية، المؤسسات الحكومية هي التي تملك الفضاء العام. هذا من ناحية وجودها ولكن ما تأثير وجودها؟ أقدم مثالين في حمص ودير الزور، مراكز المدينة الأساسية في هاتين المدينتين كانت في يد المعارضة في مرحلة من المراحل، ما حدث هو أن النظام نقل جميع المراكز الحكومية إلى أحياء أخرى أكثر أماناً أو تحت سيطرته، كان خطاً أحمر بالنسبة له أنك موجود في مركز المدينة، ورأينا في حمص أن مركز المدينة دُمر بشكل كامل، حدثت فيه نكبة تدعو للأسف، وبعد الصفقة التي خرج بموجبها المسلحون من المركز قامت الدولة بترميم المباني كي يعود الموظفون إليها، فمراكز المدينة تكسب أهميتها من ناحية وجود الحكومة السورية. إن وجود وظيفة الدولة وتقديمها للخدمات، يعتبران أمراً له قيمة. لكن من ناحية أخرى هناك نتائج لوجود النظام في مراكز المدن، مثلاً تطريف المعارضة وجعلها طرفية حول المركز وهذا شيء ملاحظ، ففي حماة وإدلب مثلاً، النظام موجود في مركز المدن والمعارضة في الأطراف، هذا له قيمة في الداخل السوري، فالنظام يملك مراكز المدن والمعارضة تملك الأطراف، وفي المراكز السكان والوظائف وبالتالي هي مركز القوة، هذا خطأ وقعت فيه المعارضة فقد كانت تعتقد أن المساحات هي الأهم، لكن في النهاية في الوضع السوري المراكز هي الأهم، ويجب أن نذكر أيضاً النزوح الذي حدث إلى مراكز المدن من الأرياف، فمثلاً حلب انقسمت إلى نصفين، غربي يسيطر عليه النظام، وشرقي تسيطر عليه المعارضة. في إحدى المراحل في نهاية ٢٠١٣ كانت ذروة حلب الشرقية التي كان فيها مؤسسات مجتمع مدني وإغاثة وتنمية وكثافة سكانية أكثر من ٢ مليون، ما حدث ، كي أريك كيف أن المراكز مهمة للنظام وما تزال، أن براميل الموت تركزت على حلب الشرقية. لم يكن الهدف منها قتل الناس بل قتل الحياة أكثر، قتل مظاهر التنمية والإدارة وأي شيء يمكن أن ينشئ مركزاً ينافس النظام في الشمال السوري، هذا كان هدف براميل الموت. وهذا أثر على المانحين فلم يعودوا قادرين على الدفع .ما حدث فيما بعد هو أن ٧٠٪ من السكان نزحوا نحو تركيا، إلى الشرق وكثيرون أتوا إلى النظام، وما لا نفهمه هو أن النظام يقصف الناس ببراميل الموت وهي تنزح إليه، إلى حلب الغربية. كانت المحصلة التدمير بالكامل، لأي مشروع قد ينتج مركزاً في المستقبل القريب واحتكار المركز للنظام، فالمركز له قيمة حقيقية. إن كثيراً من موظفي الهلال الأحمر العربي السوري أتواصل معهم فيقولون إن الأعداد متضاعفة ولكن لا يوجد إحصاءات رسمية. حين نتحدث عن الشمال\\الشرق في سوريا نضع دير الزور بنفس التصنيف مع الرقة
احتكرت الدولة المركز في النهاية. عدد السكان تضاعف في مراكز المدن لأنها آمنة، فمثلا نسمع أن النظام غير موجود في الرقة ودير الزور، وهي مناطق لداعش، إلخ. صحيح ولكن في دير الزور وفي داخلها هناك حي الجورة والقصور وهو مهم جداً، ويعيش فيه مئات الألوف. ما يضاهي نصف سكان المحافظة بالكامل، يعيشون في حيين بكثافة سكانية هائلة.فالمراكز لها قيمة من ناحية الكثافة السكانية واستقطاب الناس للعيش فيها وهي آمنة وببساطة لا تستهدفها براميل الموت، وفيها جهاز الدولة يعمل ويقدم الخدمات الحكومية، وثمة حاجة إليها من قبل السكان. هذا من ناحية قيمة المراكز
بسام: هذا مهم لأن هناك لغطاً كثيراً حول هذه الظاهرة، براميل الموت وعلاقتها بقتل الحياة وخلق نوع من النزوح اإلى المناطق التي يسيطر عليها النظام. دعنا ننتقل إلى مسألة أخرى هي قاعدة النظام الاجتماعية، كانت موجودة قبل ٢٠١١، ورأينا بعد ٢٠١١ أنها بدأت تتغير في السنة الأولى، ثم رأينا مع عسكرة الانتفاضة أنه صار هناك تقلبات وتحولات لأنه صار هناك نوع من التفكير وليس الخوف، التفكير مرتين، بعد التسليح والتدخل الخارجي، وصعود وطغيان بعض الحركات الأصولية على أماكن بكاملها مما أدى إلى إعادة اصطفاف في قاعدة النظام، هل يمكن أن نتحدث عن التغيرات في القاعدة الاجتماعية؟
خضر: القاعدة الاجتماعية، الأقليات هي مؤلفة من علويين ودروز ومسيحيين، لكن البنية الأساسية للنظام مرتبطة بالطائفة العلوية ويجب أن نكون واضحين وصريحين في هذا. أختلف معك حين تقول إنها موجودة قبل ٢٠١١، و أقول إنها كانت تتذمر من النظام قبل ٢٠١١. كان النظام يتجه أكثر نحو اللبرلة الاقتصادية، نحو أمور عكسية اجتماعية ثقافية تمس بنيته الأساسية. كان هناك خلل كبير في تلك الفترة، ما حدث فيما بعد، بعد الانتفاضة تجرد النظام بشكل كامل من كامل الأقنعة التي ارتداها في مرحلة من المراحل وعاد إلى نواته الأساسية التي فيها شيء رابط معها هو الطائفة. وهذا موضوع حساس
بسام: هل تسمح لي بمداخلة سريعة؟ نحن لا نتحدث عن شعور الإنسان السياسي الضمني قبل ٢٠١١ .قاعدة النظام، إذا كان بوسعنا القول، قاعدة طبعاً لا أقصد من ينتمي إلى النظام أو يحبه وهذه قبل وبعد الانتفاضة مسألة خارجية تعبر عن أفضليات الشخص وليس ضمنياً عن شعوره. أنا أدرج هنا فئات لا تحبذ النظام ولكن ضمن أفضلياتها النظام أقل سوءاً بالمقارنة مع البدائل الموجودة، ونحن لا نتحدث هنا عن التعبير العاطفي الشخصي الإيجابي للشخص ضمنياً بل عن شيء مادي أكثر كعلاقة الدولة مع بعض الفئات الاجتماعية أورجال الأعمال. طبعاً معظمهم يكنون شعوراً سلبياً لكنهم كانوا يرون أن النظام يحمي مصالحهم. هل يمكن أن نتحدث عن هذا ضمن القاعدة في إطار لتفسير الذي نتحدث فيه، و يجب أن أوضح هذه نقطة أن هناك كثيرين يكرهون النظام ولكنهم يفضلوه
خضر: في هذا السياق أتفق معك ولكن يجب أن نعرف عمن نتحدث في النظام، هل نتحدث عن القصر الجمهوري؟ أو أجهزة الأمن؟
بسام: نحن نتحدث عن الوضع القائم ، ضمن البدائل الموجودة، بمعنى ماذا يمثل النظام ككل بغض النظر عن التجزئة، التي نستطيع التحدث عنها، ولكن على مستوى عام نتحدث عن الوضع السائد الذي كان يسيطر عليه النظام أو يسيطر عليه في بعض المناطق أو المعارضة التي يقال عنها الجيش الحر وتوابعها أو الائتلاف، أو الحركات المتطرفة، فالنظام كفئة، كمنزلة هو الشيء الذي نتحدث عنه، أعني النظام كوحدة.
خضر: بالنسبة للقاعدة الاجتماعية في هذا السياق الذي وصفته الآن يوجد قواعد اجتماعية. لا أعتقد أننا نستطيع أن نضع شخصاً من عائلة منخرطة بالكامل في العمل العسكري مع النظام مع شخص موجود في الشام طالب وعائلته من المدنيين العاديين. أعتقد أنه يوجد هنا قواعد اجتماعية وتراتبية في الموضوع، لكن الصورة العامة هو أن هناك في الشارع السوري نفساً عاماً ما هو البديل، نسمع هذا في الآونة الأخيرة وهو موجود دائماً، نستطيع مثلاً أن نأخذ الانتخابات الرئاسية التي جرت في شهر حزيران كمثال، فكثيرون من كافة الانتماءات ذهبوا كي ينتخبوا ورأينا هذا يحدث في لبنان، ولكن ما المحرك لهذا الموضوع؟ أعتقد أنه مرتبط بالبدائل وبالخوف أيضاً، بصراحة الخوف موجود وحاضر لكن في الوقت نفسه يوجد خوف أكثر من المناظر التي يرونها من داعش مثلاً. وتتردد أحاديث لدى القواعد الاجتماعية المتدرجة الأقرب للنظام والأبعد عنه، كلهم في تصنيف واحد هم مع بقاء النظام أو حل سلمي. هذا ما ألمسه من الناس، يريدون حلاً سياسياً سلمياً باستثناء الناس المنخرطين كثيراً في العمل العسكري، هؤلاء أمر ثان تماماً ولكن الحالة العامة هي كما أقول لك. هذا مرتبط بالحل السلمي، مرتبط بالخوف من داعش، مرتبط بالخوف من البدائل ومن النظام نفسه. هناك عاملان أساسيان في الموضوع
بسام: في هذا السياق لا مانع إذا تحدثنا عن أمور قد تبدو سطحية، ذلك أن الخطاب عن سوريا سطحي في معظم الأحيان ويجب أن نتدخل فيه أحياناً بشكل سطحي، فمثلاً هناك أسئلة التي تدور في ذهن بعض الأشخاص أو المراقبين: هل نستطيع القول إن هذا الدعم من القاعدة الاجتماعية حتى لو كان سببه الخوف من البدائل هل زاد أم خف بعد المرحلة الأخيرة في الشهور الماضية؟ ما رأيك؟
خضر: ليس الموضوع موضوع نسبة، ارتفاع أو انخفاض في الدعم، أعتقد أن المجتمعات غير مستقلة كي تنتج آلية تدعم النظام من خلالها، هذا من ناحية، من ناحية أخرى هي مستقلة في بعض الأماكن، أستطيع وصف التعقيدات، أستطيع القول إن العلويين في سوريا والدروز وغيرهم هم جهاز اجتماعي كامل يعيش في مناطق جغرافية محددة وواضحة. وهم على أرض الواقع لم يخسروا منازلهم ووظائفهم، بل خسروا أفراداً شباناً من الذين يقاتلون مع النظام. يقارنون أيضاً خسائرهم بخسائر غيرهم، ويرددون المثل السوري الشائع: الكحل أحسن من العمى، وهو يعني نحن خسرنا ولكننا أفضل من غيرنا. لا يوجد استقلالية كي ينتجوا هذه الآلية مع النظام لأنهم يتعاملون مع الدولة في هذا السياق. فبالنسبة لهم هذه حكومة، دولة، هم يتعاملون مع جهاز مؤسساتي وليس مع أفراد معينين ولكن من ناحية ثانية أستطيع أن أقول لك في بعض النقاط والأماكن والحوادث ترى أن النظام والمجتمع شريكان بطريقة ما، مثلاً في حمص هما شريكان، في كثير من المراحل قام المجتمع العلوي والنظام السوري بشراكة ليتمكنا من القضاء على الانتفاضة في حمص. كانوا شريكين. هنا نستطيع التفكير بالموضوع من الناحية الطبقية، فالطبقة الوسطى في القواعد الاجتماعية الداعمة للنظام انقلبت تماماً، لم نعد نرى نفس الأفراد ونفس الأشخاص أو طبقة وسطى بالكامل، ما نراه كثيراً هم محدثو النعمة. نرى أشخاصاً كان وضعهم عادياً فصار ممتازاً جداً. مثلاً، أبناء الطبقة الوسطى الذين كنا نعرفهم وكان دخلهم مبلغاً ما، ويعيشون حياة جيدة لم يعد لهم فرص في هذا الوقت، إما أن يشتركوا في القتال أو ما يرفده أو أن يبقوا في أعمالهم الوظيفية السابقة. نرى أن الموضوع طبقي إلى حد ما، لكنه أعقد من أن نقول إنهم يدعمون أو لا يدعمون، في كل مرحلة يمر فيها النظام في ضعف نفترض فوراً تلقائياً أن المجتمعات التي تدعمه ستنقلب عليه أو الحاضنة الشعبية له ستنقلب عليه أو أي شيء من هذا القبيل. أعتقد أن هذا الأمر غير موجود، النقد موجود دائماً، هم لا يقدمون دعماً، هم مرتبطون بجهاز الدولة، موظفون في مؤسساتها، علاقتهم مختلفة؛ ليس لديهم آلية لينتجوا دعماً أو يعاقبوا أو يحاسبوا، العلاقة أعقد مما نتصور
بسام: بالتأكيد، أنا لذلك حين سألتك قلت هذه مسألة سطحية لكننا نسمع عنها كثيراً غير أن الجواب الذي قدمته لي هو ما أبحث أنا عنه. لكن أريد أن نركز على مستوى أعمق. لا أريد أن أحلل كثيراً ولكنني أريد منك أن تقدم لنا جواباً ثانياً عن مسألة معقدة والتي ليست هي فقط مسألة ازدياد أو انخفاض الدعم للنظام، هل يا ترى، برأيك، خففت الشهور الماضية بالأخص من استعداد الأشخاص أو المجموعات للانتماء أو للانخراط في قوى تحارب النظام أو زادت من استعدادهم؟ هل نستطيع الحديث عن هذا؟
خضر: أعتقد أنا هذا سؤال مهم، أظن أن هذه المرحلة خففت من الإرادة أو الاندفاع، الحماس لم يعد موجوداً، هذا مرتبط أيضاً بحالة أنه لا يوجد قراءة لدينا على أي مستوى لأين أصبحنا؟ ولماذا وصلنا إلى هنا؟ ما هي آفاق المستقبل؟ وهذا أمر يمتلك الشارع العام، والقواعد الشعبية الداعمة للنظام لديها حدساً حياله، لديها شعور أنه الأمر سيطول، الحكاية طويلة، هذا ما تسمعه دائماً، في الإعلام وعلى مستوى الشارع وقد ولد شعوراً بأنني إذا ذهبتُ إلي القتال فإن هذا سيستغرق سنوات، هذا موجود. من ناحية ثانية، إن المقاتلين الموجودين مسبقاً مع النظام هم يسوّقون لهذا الأمر لاشعورياً، دون خطة. فتسمع مثلاً أحدهم يقول: غداً سوف أستشهد، ويقول أحد المقاتلين في الدفاع الوطني أو الجيش السوري، أنه إذا رتبواصفقة دولية سيضحون بنا، هذا شعور المقاتلين مع النظام والمعنويات تسير في هذا الاتجاه، لكن في الوقت نفسه إذا سألتَ أحداً منهم يلتحق ليقاتل معهم يقول لك أنا لدي أسرة وبحاجة لراتب فهناك روابط اقتصادية، أو بعض المخاوف الطائفية، فالشعور الطائفي موجود. هناك ثنائية أنه يعرف أين هو وماذا سيحدث له وكم ستطول الحكاية، وفي الوقت نفسه أنه ليس لديه بديل أو أنه يريد أن يعمل أو يؤمن عائلته أو لا يريد أن يدخل داعش، هذا موجود وتراه على المستوى الفردي أما الحالة الجمعية فقد خفّ
بسام: شكراً، أنا مهتم بالأمر لأن الموضوع السائد في الأحاديث هو قصة الدعم للنظام، ولكن أتفق معك أنه خطاب سطحي لأنه ليس اكتشافاً أننا يمكن أن ننقد النظام بشكل لامتناه، والمسألة غير معقدة أن نقول إن كثيراً من الفئات الموجودة في الانتفاضة ليست فئات يمكن أن يعدها المرء متجهة نحو مستقبل أفضل. يبقى لدينا مسألة حساسة قد يكون فيها أمل وأريد أن أسألك عنها وهي البديل الآخر. نتفق أن النظام ليس الحل لمستقبل أفضل، رغم أن الحل قد يتضمن النظام، ولكننا حين نتحدث على مستوى مثالي قليلاً، نرى أيضاً أن بعض الفئات في المعارضة المسلحة لا تقدم بديلاً. العالم يتحدث عن الإنسان السوري العادي الذي يريد مستقبلاً أفضل وهناك من يحاولون إدراج ما يسمونه الجيش الحر ضمن هذه الفئات أو التنسيقيات، إلخ، إذا أخرجنا النظام والأحزاب المسلحة جانباً، ماذا يبقى؟ وهل يمكن إن نتحدث عن مجموعة أشخاص ومؤسسات وجماعات موجودة في سوريا ما تزال تعارض، وتدعم الانتفاضة، ولها أمل بتحقيق شيء أم أن هذا غير وارد في الوقت الحالي؟
خضر: هذا يعود إلى تكتيكات النظام، في مرحلة السماح للناشطين المدنيين، الذين كان لديهم طموحات سياسية، كي يغادروا سوريا. سوريا في الوقت الحالي فارغة من أي مضمون يقدر أن ينتج مضموناً سياسياً، باستثناء المناطق الكردية، ولهذا حديث ثان. ولكن كل الشباب والقوى الحية التي كان لديها أفكار جميلة ابتعدت عن الأرض وغادرت، وربما لأسباب مقنعة، وهذا قرار شخصي. كان مهماً جداً للنظام أن يفرغ الانتفاضة من مضمونها المدني والعمل الجماعي، والمفاهيم الجذابة لكثير من المجتمعات في سوريا. إن أشخاصاً كهؤلاء لم يعودوا موجودين على الأرض. انتقلوا إلى أعمال ثانية وصار هناك جيل جديد، فالذي كان عمره ٢٤ صار ٢٨ والذي كان ١٨ صار ٢١، هذا هو الجيل الجديد في سوريا الآن، في مناطق المعارضة المسلحة ومناطق الدولة السورية. أعتقد أن هؤلاء الأشخاص لا يمكن التعويل عليهم، إذ ليس هناك تواصل بينهم وبين الآباء المؤسسين للانتفاضة. هناك أيضاً عدم تواصل، انقطاع، حين تبتعد عن الأرض، تصبح في تصنيفات سورية في الخارج أو معارضة الخارج، من هذا القبيل، ففي الداخل السوري الذي توجد فيه المعارضة والسلطة جيل مختلف عن الشباب السوريين الذين كانوا في ٢٠١١. هذا لا ينفي محاولات التواصل لبناء شبكات العمل المدني والعمل التطوعي، ولكن هذا محدود جداً لأننا لا نستطيع تجاهل دور العنف في هذا الموضوع، إذ لا يمكن تنفيذ الأمور دون إيقاف العنف. ولا يمكن لأحد أن يوقف العنف في هذا الوقت الحالي. في النهاية إن حديثنا عن الواقع من منظور التمني شيء وإذا تحدثنا عنه كواقع شيء آخر، وأنا ميال لهده الطريقة بالتفكير، فقد وصلنا في النهاية إلى طريق مسدود لأنه ما من بديل حقيقي منقذ ويجب أن نفهم أن القرار السوري لم يعد بيد السوريين، وهذا يفسر كثيراً ظواهر الشكوك والبارانويا الموجودة في كامل المجتمعات السورية المعارضة أو المؤيدة. هناك شعور جمعي بأن الفرد مجرد أداة غير قادر على فعل أي شيء. هذا هو الواقع الآن، قد تنشأ بوادر أو شيء في المستقبل لكن هذا في الحقيقة بحاجة إلى طريق سياسي يمشي عليه. أنا أركز كثيراً على طريق الحل السياسي أو المظلة السياسية، شيء من هذا القبيل يمنح أملاً، ينعش الناس، يمنحهم دافعاً ويرفع معنوياتهم. لكن هذا غير متوفرحالياً
بسام: ما قلته يجب أن نفكر به أكثر من الطروحات المطلقة ولكن يجب أن نعود قليلاً إلى الطروحات المطلقة لأن الحديث أو الخطاب الذي نتابعه اليوم على مستوى يومي يستمر على هذا المنوال. حين نتحدث مثلاً عن النظام وننتقده يكون الجواب: ماذا تريدون إذاً، داعش؟ هل هذا هو الحل؟ أو إذا انتقد أحدهم الثورة السورية وقال إنها ليست ثورة يُصاب أنصار الثورة بانهيار عصبي، ونحن هنا لا نتحدث عن القوى المسلحة أو أتباعها ولا نتحدث عن داعش أو النصرة بل عن الداعمين للانتفاضة والذين هم من خلفية مختلفة وبينهم العلمانيون، فأنت كسوري حين تنظر ـ ليس كمحلل ـ كيف يكون رد فعلك على الأشخاص الذين ليسوا قادرين حتى على المستوى التحليلي المجرد على أن يستوعبوا نقداً للنظام أو للانتفاضة؟ أو لما ما يزالون يسمونها ثورة مقتنعين بهذا الأمر؟ كيف يمكن أن نقارب هذه الظاهرة؟
خضر: عندي تفسير لهذه الظاهرة. حين تقول: ثورة أمام أحد داعمي النظام يرفضك، وإذا شككت بالثورة يرفضك داعم الثورة، وهلمجرا. أعتقد أن هذا شخصاني، ومرتبط بالهوية السورية، ففي سوريا هناك أزمة هوية حقيقية. فحين تقول لأحد الأشخاص إنك ضد الأسد وهو من داعميه يفهم أنك ضده، بصراحة الأمر هكذا، فأنت تسألني الآن إن كنت ضد النظام أو ضد الثورة. بصراحة النظام أوالثورة ليسا رمزين بل متجسدان في أشخاص ومنظومة فكرية كاملة، فهو بهذا يضع نفسه ضمن هذه المنظومة ويعتبر أنك تهينه بشكل شخصي، وهذا يفسر أنه إذا طرحت: ما هي الثورة؟ أو: عرّف لي الثورة؟ فهو يعتقد أنك تهاجمه شخصياً لأنه وضع نفسه تماماً في هذا التصنيف. ونحن حالياً لسنا في صدد قول ما هو الصحيح وما هو الخطأ. في النهاية نحن نقول كيف هي الأمور ضمن هذا الشيء وأنا أفسرها في هذا السياق، أما الآن إذا سألتني كشخص سوري عن رأيي الشخصي المباشر أقول لك إن هناك انتفاضة قائمة في سوريا وما زالت قائمة. لم يعد مهماً أن نقول ثورة أو انتفاضة نحن نتحدث عن حراك ما يزال موجوداً، أنا أعتقد أنه موجود ولو لم يكن حركة يومية، إن هذا الأمر لم يمت بعد، وأستطيع أن أقول لك في الوقت نفسه إن النظام ما يزال موجوداً وهو متجسد في مئات ألوف الأشخاص الذين ما يزالون موجودين على الأرض، في إطار منظومة فكرية كاملة تمتد إلى لبنان إن شئت
بسام: آخر مفصل في حديثنا. إن الحديث يتم عادة عن التغيرات في الانتفاضة السورية، وطبعاً المعارضة الخارجية، والائتلاف وغيره لهم وزن أقل في الداخل حتى منذ بدايات الانتفاضة، لكن العنصر أو العامل الذي يتحدث عنه الناس كعنصر فيه استمرارية هو النظام، إذ لم نر نوع الانشقاقات التي حدثت في أنظمة أخرى، إلخ على أي مستوى مهم. إن سؤالي لك هو: هل هذه الصورة صحيحة؟ هل ممكن يا ترى إنه ليس هناك ترهل مؤسساتي في الداخل، أو هناك انشقاقات غير معلنة، أو خلافات جذرية غير معلنة، وأكثر من مسألة الخلافات هل هناك ترهل مؤسساتي أو ما يتعلق بالسلطة؟ أم أن الخطر القادم يوحد الصفوف دائماً بحيث لا نرى مشاكل كهذه؟ وهل يمكن أن نشهدها في وقت لاحق؟
خضر: أعتقد أننا حين نفكر بهذا الشكل، نستطيع أن نتحدث عنه حالياً، ونستطيع التحدث عنه بعد سنوات، أنا أعتقد شخصياً أن النظام سيبقى كما نعرفه لسنوات طويلة. وأبني هذا على عامل أساسي هو طبيعة النظام أو بنيته، ففي عمقه هو نظام أزمة وإشكالات، إن مشكلته الحقيقية هي مع حالة السلم والازدهار والحراك الثقافي الفكري في المجتمع، إن هذا ما يدمره بشكل كامل. لكن في هذا الشكل، وفي هذه الظروف التي نمر فيها أستطيع أن أقول لك إنه قادر على الاستمرار سنوات طويلة. لأنه بطبيعته يعيش على الحروب والأزمات وهذه هي طبيعته وبنيته، من ناحية ثانية، مهما حدثت هزات وترهلات داخل المؤسسة لديهم دوماً طرق، إنهم ليسوا براغماتيين فقط، ليس لديهم خطط طويلة الأمد لكنهم يتعاملون مع الحالة في وقتها الحالي وبشكلها الأمني، فهم يرون المعلومة أو الحدث بشكله الأمني ولكن ليس بشكل علمي، إن تحليلاتهم وطريقة تحركهم واتخاذهم للقرار مبني على حدث هو بالضرورة أمني بالنسبة لهم، فأي حالة أمنية تحدث في سوريا تقدر أن تمنحهم مزيداً من الحياة وزخماً. هذا من ناحية، أما من ناحية أخرى فإن الأسد، بشكل شخصي، أعني منصب رئيس الجمهورية، هو المفتاح هنا، فهو شخص محصن من النقد صراحة ولا أمتلك تفسيراً للسبب داخل قواعده الاجتماعية ومؤسسة الدولة. ارتفع منسوب النقد الآن، فالناس يتحدثون وينتقدون الآن في الشارع، في الفضاء العام، لكنه يستهدف النواب والأشخاص الذين حوله، كما أن هناك صورة فنحن لا نستطيع الافتراض أن النظام له شكل وهذا هو الشكل، لكن صحيح أن له بنية وهذه البنية لم تتغيّر، لكن الشكل يتغير دوماً. على سبيل المثال، هناك أسئلة من نوع أن الأسد لم يقدم نفسه كعسكري من قبل، لم يظهر أبداً بمظهر عسكري، هو دوماً طبيب، فصورته العامة في المجتمع طبيب، أو مثلاً لم يقدم نفسه بشكل طائفي، فكثير من وسائل الإعلام تتحدث عن الطائفة العلوية ولكن لا يوجد مؤشر يدل على أن بشار علوي في السلوك والثقافة واللهجه، فهو لديه صورة يحافظ عليها منذ البداية وأعتقد أنها تساعده كي لا يُنْقَد وتحيّده عن أمور كثيرة، فقد يكون له مكان في سوريا المستقبل، وهذا غير معروف حالياً، ولكن هناك طرق يشتغلون بها بتغيير أشكال لكن البنية واحدة والتي هي استثنائية أزماتية تعيش في الحروب. هذا من ناحية النظام أما من ناحية المعارضة فتستطيع أن أن تنتقدها أكثر لأنها بالدرجة الأولى معارضة تمثيلية بمعنى أنهم ممثلون عن الشعب وليسوا قياديين، وهذه نقطة، النقطة الثانية إن المعارضة تتحول إلى منظمات غير حكومية، تدعم فقط السوريين، ما من مشكلة، فالسوريون بحاحة إلى الدعم والإغاثة، هذه حقيقة، لكنهم أيضاً بحاجة إلى العمل السياسي. هم للأسف ما يزالون غير مؤهلين لهذا الأمر. هناك أشخاص كثيرون مهمون داخل الائتلاف السوري لكن المنظومة بالكامل تتوجه نحو كونها منظمات غير حكومية، كما أرى بصراحة أكثر مما تتجه نحو العمل السياسي الحقيقي
بسام: قبل أن أطلق سراحك يجب أن نتحدث عن مسألة أخرى فاعذرنا إذا حجزناك أكثر
خضر: ما من مشكلة، هذه أول مرة أتحدث بها بهذه الطريقة منذ أربع سنوات. عندي أشياء كثيرة كي أتحدث عنها وهذه المقابلة حدثت في الوقت المناسب
بسام: كنت أقول إن الخطاب الموجود عن المسألة السورية هو سطحي أو عنصري أو لا جدوى منه، أو مبني على التوصيف المطلق، وليس فعالاً، وبالطبع إن الخطاب الموجود في أميركا عن سوريا ليست له أية علاقة بمصلحة السوريين، حتى لو تبدى في بعض الأحيان أنه منطقي لكن بشكل عام الخطاب السائد في أميركا، مع بعض الاستثناءات، وفي أوربا إلى درجة أقل عبارة عن خطاب عن أمور أمنية إقليمية أو تتعلق بهم لكنه ليس عن السوريين أو مصلحتهم، حتى في الخليج العربي إن الخطاب ليس عن السوريين ومصلحتهم لأن الفئات التي تشتغل ضد النظام كانت هي داعمة له ضمن الدول العربية، آخر سؤال هو مسألة الطائفة العلوية التي كتبتَ عنا وقلتَ إنها متنوعة ومتعددة داخلياً، ولا تعبر عن صوت واحد، وهذه التعددية تنعكس في المناطق الجغرافية بين حمص والساحل، الخ، هذه التعددية التي تعبر عن آراء مختلفة ماذا يحدث لها مؤخراً؟ هل نشهد اصطفافاً أم نرى شيئاً آخر، برأيك؟
خضر: إن ما نراه هو متناقضات، إن الشخص العلوي نفسه لا تستطيع أن تسأله سؤالاً واحداً وتأخذ منه جواباً واضحاً. هذا غير موجود للأسف، ففي لحظة يؤيد ما يحدث وفي لحظة أخرى هو ضد ما يحدث، فهو مؤيد ومعارض وكل هذه التناقضات موجودة فيه، عند الفرد العلوي والمجتمع العلوي ككل، والأساس هو العلاقة بين الطائفة وجهاز الحكم بالكامل. أعتقد أن الموضوع بهذا الشكل ونحن غير قادرين على تقديم صورة دقيقة فالموضوع ليس أبيض أو أسود. إنه أعقد بكثير من هذا، فما هو أكثر إشكالية هو العلاقة بين الطائفة والنظام وأستطيع أن أوصّف هذه العلاقة لك، هناك فروق، هناك أشخصا يقاتلون وأشخاص لا يقاتلون، وصامتون، وآخرون يهربون، هناك ساحل وداخل سوري، داخل الساحل لدينا طرطوس والتي كتبتُ عنها وسميتُها مدينةَ الحكومة أكثر مما هي مدينة علويين، فالحكومة ترينا صورة الدولة السورية من خلال طرطوس ولكن هذا موجود في السويداء أيضاً، هناك تعقيدات، ولكن بالنسبة لي الموضوع المهم هو مع من تتحدث من العلويين، لا يوجد جسم أو مجتمع علوي يمكنك التواصل معه لأن الطبقة المهيمنة على العلويين، المفتاح، الوسيط بين المجتمع والحاكم، هم المنخرطون في العمل العسكري الديني قليلاً، بالإضافة إلى الجمعيات التي صارت ناشطة مؤخراً على الأرض، فهؤلاء الأشخاص هم الجسم الحقيقي الذي يقوم بدور الصلة بين المجتمع وجهاز الحكم. أعتقد أن هذا مهيمن كثيراً ومن الصعب التواصل مع العلويين بخطاب ما دون المرور بهذه الكتلة المهيمنة، الجهاز العسكري الديني الاجتماعي المسيطر، هناك إشكالية، فهناك التعقيدات داخل العلويين ثم تراتبيتهم الاجتماعية كيف تعمل. هناك نواح أخرى، ففي عدرا العمالية هناك عائلات علوية مختطفة من قبل الجبهة الإسلامية، وكان هناك طيارون هددوا بإعدامهم، أتابع أنا صدى هذا في المجتمع العلوي، وكم له تأثير، يسعون لحل الأمر ويقوم فرد مثلاً بانتقاد النواب أو القيادات حول الرئيس السوري، باسم الرئيس، مبتدئاً بجملة من كلام حافظ الأسد أو بشار الأسد، قال الرئيس حافظ الأسد: لا تسكتوا عن الخطأ مثلاً، الخ، ويبدأون النقد والمحاكمة وطرح طلباتهم. هل صحيح ما أوضحه؟ مثلاً ما حدث في مطار الطبقة حيث قتل المئات من العلويين وكما قال الناس في المجتمع العلوي تم التضحية بهم، ولكن من تم لومه على ذلك هو وزير الدفاع ورئيس الأركان وبعض الشخصيات الأخرى واتهموهم بالتآمر على الرئيس حتى، فهذا يدفعك إلى الاستنتاج أن هناك شيئاً محصناً من النقد، فهم لا يرون أن الرئيس يمكن أن يفعل هذا بل يرون الفاسدين الذين حوله، وهذا مهم جداً كي نقدر على فهم العلاقة بين الطائفة والنظام، ولا يمكن أن يأتي يوم وتنقلب على النظام للاعتبارات التي شرحتها لك الآن
بسام: شكراً
خضر:هذا موضوع معقد وحساس وأحاول أن أكون حذراً فيه. كما لمست من خلال البحوث التي أجريتها لستُ مع فكرة أن النظام خطفَ الطائفة فحسب، هناك شيء داخل المجتمع يسمح بهذا الموضوع، يسمح لها بأن تُخطف، إذا آمنا بذلك هناك أيضاً إفرازات من داخل المجتمع تعلو على النظام في بعض الأماكن، هناك علاقة جدلية بينهم
بسام: أيضاً هذه مسألة عقلانية، من الطبيعي أن يكون لابن الأقلية موقف معين حتى ولو ضمنياً موقفه مختلف، حتى مع هذه التقلبات والازدواجية التي تحدثت عنها، في النهاية القسم الأكبر من الأقليات الأساسية في سوريا معروفون هم ضد من أكثر مما هم مع من، من المعروف أنهم ضد البديل الممكن أن يكون موجوداً
خضر: ضد البديل ولكن في مرحلة ما هم ضد الآخر، فالموضوع ليس مرتبطاً فقط بأقلية أو أكثرية، وأعتقد أننا يجب أن نعيد النظر في مفهوم الأقلية والأكثرية في سوريا من جديد، وربما هو غير موجود، ولكن هناك شيء مرتبط بالأنا والآخر أعتقد أنه موجود، حتى قبل الانتفاضة السورية. كان هذا الوضع متوقعاً لدى المجتمع العلوي وكانوا جاهزين لمثل هذا اليوم أو يتوقعونه، كان هناك جذور لهذا الموضوع، هذه استمرارية وليست مرحلة انقطاع، نحن لسنا في مرحلة جديدة من ناحية العلاقة بين الطائفة والنظام، أعتقد أن هذا مستمر وجذوره في الثمانينيات واضحة
بسام: نعم المسألة تاريخية مركبة. ما أحاول طرحه أنا من خلال معرفتي بأشخاص كما تعرف أنت أشخاصاً في سوريا وكما يعرف الجميع، أن الطوائف التي تُعتبر أقليات تتبنى في النهاية موقفاً ضمنياً يمكنك معرفته حين تتحدث مع أي شخص ولكن ليس بالضرورة أن هذا الموقف علني عند البعض. إن الموقف العلني يرتبط بالمصلحة الموضوعية للشخص أكثر مما يرتبط برأيه بالنظام والمعارضة أو بداعش أو بالتدخل الخارجي، أي هناك نوع من المحصلة التي في النهاية بالرغم من الفروق والأمور الحساسة تتجه نحو: أنا لن أعمل شيئاً، لن أنضم إلى الآخر أو البديل وبغض النظر عن موقفي من الوضع السائد أو النظام هذا موقف موضوعي ولذلك نرى الأكثرية ضمن الأقليات ليست مع المعارضة بشكل فعلي
بالمناسبة أشكرك على هذا الحديث الذي لم أقاطعك فيه لمناقشة بعض التفاصيل التي تحتاج إلي نقاش وربما سيتاح لنا أن نكمل حديثنا هذا في وقت آخر
خضر: شكراً لكم وأتمنى لو أنني أوصلت لكم شيئاً من نتائج الأبحاث التي أجريها. وكل مفصل من المفاصل التي تناولناها يحتاج بحد ذاته إلى حديث أطول وبحث مستفيض
بسام: بالعكس كانت أجوبتك مختلفة ومهمة، وقد لا يعجب الحديث كثيرين لأن المواقف ليس مطلقة أو داعمة لهذا الطرف أو ذاك
خضر: في النهاية أنا باحث اجتماعي، وأؤلف حالياً كتاباً عن سوريا سأنهيه في نهاية ٢٠١٥، وأحاول أن أكون موضوعياً وحيادياً وهذا هو المهم بالنسبة لي لأنني لست ناشطاً، ولكن لدي أحاسيس وتعاطفات من نوع ما لكنني أقوم بعمل
بسام: بالمناسبة، هل تعرف المطرب السوري من الستينيات دياب مشهور؟
خضر: آسف، لا أعرفه!
بسام: ماذا؟ لقد فضحتنا. ربما هذا فرق الجيل بيننا، فدياب مشهور كان يغني بصح النوم مع غوار
خضر: آسف لا أعرفه.
بسام: لا يا خضر، أنا آسف كنت أمزح، سأرسل لك بعض أغانيه. شكراً